تحت هاشتاج أوقفوا قطع الأشجار وداخل مجموعة الفيسبوك أشجارك يا مصر، التي تُعرف عن نفسها بأنها مجموعة تدعو للحفاظ على الأشجار ووقف المذابح المتكررة لها، وثّق آلاف من المصريين عمليات قطع الأشجار في مختلف شوارع ومحافظات الجمهورية، خاصة في شهري مايو الماضي ويونيو الجاري.
رغم أن قطع الأشجار في شوارع مصر والقاهرة والجيزة بشكل خاص أمر متكرر منذ عام 2014، بدعوى توسعة الطريق والتنمية العمرانية؛ إلا أنه يوجد نشاط لعمليات القطع على مدار الأسابيع الماضية لا يُعرف سببًا له، دون توضيح من الجهات المسؤولة، عن أسباب القطع، أو إلى أين تذهب الأخشاب الناتجة عن تلك العمليات.
حملة قطع الأشجار تزامنت مع موجة شديدة الحرارة تجاوزت فيها درجات الحرارة في الظل 45 درجة مئوية، وتسبب القطع المستمر للأشجار في خلو الشوارع من مناطق وأماكن مُظللة تُخفض من حدة الشعور بدرجات الحرارة المرتفعة.
بحسب مرصد الغابات العالمي فقدت مصر خلال الفترة من 2013 وحتى 2023 قرابة خمسة ملايين و60 ألف متر مربع من المساحات الخضراء و الغطاء الشجري، ما يعني انخفاضًا في الغطاء الشجري بنسبة 0.33% منذ عام 2000، ويُعادل 121 كيلو طن من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، بفعل التنمية العمرانية والتصحر وإزالة الغطاء الشجري والمساحات الخضراء المدفوعة بالإنتاج الصناعي والتجاري.
وساهمت التنمية العمرانية منذ 2013 وحتى 2023 في إزالة وقطع قرابة مليون و660 ألف متر مربع من الأشجار والمساحات الخضراء أي حوالي 33% من إجمالي المفقود من الأشجار والمساحات الخضراء في الفترة نفسها.
رسم بصري لأسباب فقدان الغطاء الشجري والمساحات الخضراء من 2001- 2023
توزيع غير عادل للمسطحات الخضراء
ساهم القطع المستمر للأشجار في تراجع عدد الأشجار بالنسبة لكل فرد/ مواطن، بحسب تقرير “حتى لا يزول الأخضر” الصادر في نوفمبر 2022 عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ووصل نصيب الفرد في مصر من الأشجار إلى شجرة واحدة، وهي أقل نسبة مقارنة مع دول شمال أفريقيا، كما تراجع نصيب الفرد من المساحات الخضراء إلى 17 سم فقط، بينما توصي منظمة الصحة العالمية بأن يكون نصيب الفرد من المسطحات الخضراء تسعة أمتار مربعة.
في دراسة “كمية وتوزيع المساحات الخضراء العامة في القاهرة، مصر” المنشورة في دورية الهندسة والعلوم التطبيقية عام 2022، وجدت أن القاهرة لا تواجه فقط تراجعًا في المساحات الخضراء ولكن أيضًا توزيع غير متساوٍ لها.
وبحسب الدراسة فإنه “في عام 2020، كان لدى 22 منطقة من أصل 37 منطقة، حيث يعيش 66% من السكان، حصة فردية من المساحات الخضراء أقل من 0.50 متر مربع. أقل حصة في هذه الفئة 0.01 متر مربع بالمطرية وأعلى حصة في عابدين 0.46 متر مربع”.
ووجدت أن خمس مناطق فقط لديها حصة فردية تزيد عن ثلاثة أمتار مربعة، تشمل غرب القاهرة بمساحة 10.04 متر مربع، ومنطقة المعادي بقيمة 5.27 متر مربع، وحي النزهة التي وصلت مساحة المسطحات الخضراء للفرد الواحد إلى خمسة متر مربع، ومصر الجديدة بمساحة 3.52 متر مربع. أما منطقة وسط القاهرة خاصة موقع حديقة الأزهر، ويتميز محيطها بعدد سكانها منخفض نسبيًا؛ ما ساهم في وضعها ضمن الفئات الأعلى من حيث حصة الفرد من المساحات الخضراء في القاهرة بمساحة 3.22 متر مربع للفرد.
ورغم إطلاق مصر ضمن استراتجيتها 2030 مبادرة “اتحضر للأخضر” الهادفة إلى نشر الوعي البيئي والحفاظ على المحميات وتسليط الضوء على أهمية التشجير، إلا أن المبادرة حتى الآن لم يظهر لها أثرًا، وتشير سنا الشريف – باحثة حاصلة على ماجستير في الإدارة البيئية- إلى أن رؤية مصر 2050 ضمت زيادة مساحة المسطحات الخضراء للفرد الواحد لتصل 15 متر مربع، وأن يُعدل متوسط نصيب الفرد من المساحة الخضراء في 2020 إلى متر مربع واحد، لكن بات متوسط نصيب الفرد في 2020 حوالي 0.74 متر مربع بينما كان في 2012 حوالي ثلاثة أمتار.
وذكرت الباحثة أن الدولة لا تُراعي التشجير خلال تدشين مشروعات توسيع الطرق والتنمية العمرانية فقط، كما أن هناك انتشار لمجتمعات جديدة ومدن ممتدة حتى الحدود الصحراوية للقاهرة يتم الترويج لها على أنها مناطق “خضراء، ومستدامة، وصحية”، وتكمن المشكلة في أن تلك المُدن تُسوق لـ 2% من سكان منطقة القاهرة الكبرى، الذين من المُحتمل أن يقيموا في أحياء تصل تغطيها بالمساحات الخضراء لـ 92%.
تطلق الباحثة على هذا “الزحف الأخضر”، وهو نهج لتقليل البنية التحتية الخضراء من وسط المدينة إلى أطرافها، مما يترك المجتمعات في قلب القاهرة مع إمكانية وصول محدودة؛ ويؤدي هذا التوزيع غير المتكافئ إلى تفاقم عدم المساواة في المناطق الحضرية والفوارق البيئية.

مخالفة قانونية
يُعد قطع الأشجار وتدمير المسطحات الخضراء أمر مخالف لـ الدستور المصري، وينص في المادة (45) على أن: “تلتزم الدولة بحماية بحارها وشواطئها وبحيراتها وممراتها المائية ومحمياتها الطبيعية. ويحظر التعدى عليها، أوتلويثها، أو استخدامها فيما يتنافى مع طبيعتها، وحق كل مواطن فى التمتع بها مكفول، كما تكفل الدولة حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر، والحفاظ على الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، وحماية المعرض منها للانقراض أو الخطر، والرفق بالحيوان، وذلك كله على النحو الذى ينظمه القانون”.
كما تؤكد المادة (46) أن للمواطنين الحق في العيش ببيئة صحية، إذ تنص على: “لكل شخص الحق فى بيئة صحية سليمة، وحمايتها واجب وطنى. وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها، وعدم الإضرار بها، والاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية بما يكفل تحقيق التنمية المستدامة، وضمان حقوق الأجيال القادمة فيها.”
وينُص قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 في المادة (27) على: “تخصص في كل حي و في كل قرية مساحة لا تقل عن ألف متر مربع من أراضي الدولة، لإقامة مشتل لإنتاج الأشجار علي أن تتاح منتجات هذه المشاتل للأفراد و الهيئات بسعر التكلفة، وتتولى الجهات الإدارية المختصة التي تتبعها هذه المشاتل إعداد الإرشادات الخاصة بزراعة هذه الأشجار و رعايتها، ويسهم جهاز شئون البيئية في تمويل إقامة هذه المشاتل.
ويحظر في المادة (28) تدمير النباتات: “يُحظر وبأي طريقة قطع أو إتلاف النباتات أو حيازتها أو نقلها أو استيرادها أو تصديرها أو الاتجار فيها كلها أو أجزاء منها أو مشتقاتها أو منتجاتها، أو القيام بأعمال من شأنها تدمير موائلها الطبيعية أو تغيير الخواص الطبيعية لها أو لـ موائلها”.
قطع الأشجار يرفع درجات الحرارة
يشرح علي قطب – أستاذ المُناخ بجامعة الزقازيق ونائب رئيس الهيئة العامة للأرصاد الجوية سابقًا-، العلاقة بين قطع الأشجار وإزالة المسطحات الخضراء وزيادة حدة الشعور بدرجات الحرارة قائلًا: إن الأشجار والمسطحات الخضراء والغابات هي منتج للأكسجين والمساهم في عملية التنفس والحياة، وبالتالي قطع الأشجار والمسطحات الخضراء بصفة عامة يُقلل نسب الأكسجين وترتفع في المقابل نسب غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو أحد الغازات الرئيسية المسببة لظاهرة الاحترار العالمي.
ويوضح “قطب” في حديثه إلى زاوية ثالثة، أن غاز ثاني أكسيد الكربون يحبس الحرارة في طبقة قريبة من سطح الأرض؛ ما يُساهم في ارتفاع درجات الحرارة، مؤكدًا أن قطع الأشجار لا يُسبب فقط زيادة حدة الشعور بالحرارة، ولكنه أيضًا يُساهم في ارتفاع درجات الحرارة
ويُشير إلى أن انخفاض نسبة الأكسجين في الجو يُصعب من عملية التنفس، ويساهم في الإصابة بالعديد من الأمراض، مطالبًا أجهزة الدولة بالتوقف عن قطع الأشجار، قائلًا: “قطع الأشجار كارثة، فهي منتجة للأكسجين و تقلل من غاز ثاني أكسيد الكربون المُسبب للاحتباس الحراري”.
في السياق نفسه، تقول الباحثة سنا الشريف في حديثها إلى زاوية ثالثة، إن الكثافة السكانية المرتفعة في القاهرة والمساحات الخضراء المحدودة تجعلها عرضة لتغير المُناخ.
وتضيف أن الافتقار إلى المساحات الخضراء يؤدي إلى سوء نوعية الهواء، وتلوث الهواء، والازدحام المروري، وإدارة النفايات غير الفعالة، وفقدان التنوع البيولوجي؛ ما يزيد من تدهور نوعية الحياة.
رسم بصري يوضح حجم المفقود من المسطحات الخضراء، ونسب ثاني أكسيد الكربون الناتج عن ذلك
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) فإن للأشجار في المناطق الحضرية عدة فوائد منها: أنها تستطيع تبريد الهواء بين اثنين إلى ثمان درجات مئوية، كما تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون بكمية تصل إلى 150 كجم سنويًا؛ ما يُقلل من حدة الآثار الناتجة عن أزمة المناخ.
وعلى مستوى الصحة النفسية والجسدية تكون الأشجار الكبيرة مُرشحات جيدة للملوثات الحضرية والجزئيات الدقيقة، كما أن قضاء بعض الوقت بالقرب من الأشجار يُحسن الصحة الجسدية والعقلية من خلال زيادة مستوى الطاقة وسرعة الشفاء ويُخفض من ضغط الدم والإجهاد.
وتُساعد الأشجار المزروعة بشكل صحيح حول المباني من تقليل استهلاك مُكيف الهواء بنسبة 30% وتقليل كمية الطاقة المُستخدمة في التدفئة بنسبة تتراوح بين 20- 50%، وترفع المناظر الطبيعية ولا سيما الأشجار قيمة العقارات بنسبة تصل إلى 20%.
البيئة الصحية
يقول إبراهيم المليجي – استشاري مستشفى حميات حلوان- في حديثه معنا: “أن بيئة خالية من الأشجار تعني أنها غير صحية”، مؤكدًا ارتفاع حالات الإصابة بتليف الرئة وأمراض الحساسية الرئوية وحساسية الجهاز التنفسي بين الأطفال وغير المُدخنين.
ويرجع “المليجي” زيادة تلك الأمراض إلى نقص المساحات الخضراء، شارحًا أن الأشجار والمساحات الخضراء تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون وتُنتج الأكسجين، وهو العنصر الأهم في عملية التنفس والذي يساعد على بقاء الإنسان، موضحًا أن القلب والرئة تعتمد في عملها على الأكسجين وتواجد الأكسجين بشكل جيد في الغلاف الجوي يعني أن جودة الهواء مرتفعة.
أما في حالة تراجع نسب الأكسجين وزيادة غازات أول وثاني أكسيد الكربون، والتي يستنشقها على مدار مدة طويلة تؤدي للتسمم ويكون الأطفال وكبار السن هما الأكثر تضررًا من تلك الملوثات، وتزداد لديهما نسب ارتفاع حدوث أزمة صدرية، بحسب استشاري مستشفى حميات حلوان.
ويشير إلى أن الكثير من الأطفال الآن يحتاجون لجلسات البخار وأكسجين على مدار حياتهم، مضيفًا أن قلة الأكسجين وتراجع جودة الهواء يُسببان الإعياء، و يؤثران على النسيج الخلوي للجسم وصحة القلب.
يُنهي المليجي حديثه قائلًا: لسنا ضد عمليات تطوير وتوسعة الطريق، لكن بعد الانتهاء منها يجب إعادة زراعة الأشجار والمسطحات الخضراء، مضيفًا: “حينما يكون هناك شجرة تحت المنزل فإنها تمد سُكانه بالأكسجين”.
فيما ترى الباحثة سنا الشريف أنه يجب بدلًا من التركيز على زيادة عدد الأشجار، وجود نهج لأولوية زراعة الأشجار المناسبة والأنواع التي تتلاءم مع البيئة المحلية، مثل تلك التي تتطلب الحد الأدنى من الري، وزراعتها بكثافة في أماكن متنوعة تزيد من الفوائد البيئية.
وقد دأبت الحكومة المصرية على عمليات قطع الأشجار من الطرق العامة لصالح زيادة المساحة الإسفلتية، خاصة في السنوات الأربعة الأخيرة، إذ فقدت كثير من مساحاتها الخضراء لصالح توسعة الطرق العامة، إضافة إلى ذلك جاء مشروع تبطين الترع، ليصبح مبررًا رئيسيًا لقطع كافة الأشجار على جانبيها في المناطق والقرى الريفية. وحسب تصريحات حكومية في عام 2019، فإن عمليات قطع الأشجار تأتي تنفيذًا للسياسات العامة للدولة وأن من يعترض على القرار ستتم مساءلته قانونيًا، ما يبرز توجه السلطة ونيتها التخلص من الأشجار، في حين تزداد درجات الحرارة بشكل قياسي، وسط انقطاع متكرر للكهرباء، ليبقى المواطن ما بين ناري المناخ والكهرباء.